تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ❤️

التَّصَوُّف بقلم ممدوح العيسوي

التَّصَوُّف بقلم ممدوح العيسوي

التَّصَوُّف

قبل أن نبدأ الكلام عن التَّصَوُّف ، هناك نقطتان أساسيتان لابُد من الإشارةِ إليهما .

أولاً : أنَّ التَّصَوُّف يختلف عن تلك الاحتفالات الشَّعبية المُسماة           بالموالد اختلافاً كبيراً ، لأن العوام من الناس يتصورون أنَّ هذه المَظَاهِر الشعبية الفلكلورية هى احتفالاتٍ صوفية وهذا ما رسخَ فى أذهان الناس عن التصوف وذلك بطريق الخلط والتخليط بين التراث الصوفى المُتَمَثِّل فى التجارب الروحية العميقة ، والتراث الاحتفالى الشعبى المُتَمَثِّل فى الموروث الذى تناقلته الأجيال عبر الأزمنه القديمة ، والغريب أنهم أطلقوا عليها اسم الموالد رغم أنه فى واقع الأمر لم يُستَدل بدقة عن تواريخ ميلاد اىِّ شيخٍ صوفىِّ من أولئك الَّذين يحتفل الناس اليوم بمولدهم .

ثانياً : أنَّ لفظ التَّصَوُّف من الألفاظ المُربكَّة ومُتَرهِّلة الدلالة حتى أنَّ بعض المؤرخين عَدَّ الكلمة غير عربية أصلاً ، وإنَّما عَدُّوها يونانية مُشتَقَّة من كلمة ( صوفيا ) وهى كلمة شهيرة تعنى ( الحِكمة ) ومنها أيضاً جاءت كلمة ( الفلسفة ) بمعنى محبة الحِكمة ( فيلوسوفى ) وبعض المؤرخين أعادوا دلالتها إلى ( إرتداء الصُّوف ) الَّذى كان يرتديه أوئل المُتصوفين تعبيراً عن الزُّهد وكعلامةٍ من علامات التَّقَشُّف نسبةً إلى رِخص ثمنه فى تلك الأزمنه لاستخراجه من فراء الخِراف التى كانت كثيرة آنَ ذاك ، وبعض المؤرِّخين قال إنَّ ألاسم مشتق من الصفاء الَّذى يقترن بالمسيرة الرَّوحية لهؤلاء الَّذين عرفوا أنَّ الدين له أسرارٌ عميقة المعانى تتجاوز العبادات الظاهرة وأنَّ المُتَصَوِّف يخترق باطن الحقيقة .

ومن هنا نَستَشِف أنَّ التَّصَوُّف هو عبارة عن تَوَغُّل فى رؤية العالِم بحيث لا يقف الصوفىِّ عند ظاهر الأمور وإنَّما يسعىَ لاستشعار حقيقتها الباطنة وأنَّ التَّصَوُّف أيضاً هو عكوف على الذَّات ومراقبة النَّفس أو الرُّوح والإبحار فى أعماقِها لرؤية ما يتَجلَّىَ بداخلها مُعتبراً أنَّ الرُّوح هى المرآة الَّتى يتجلَّىَ على صفحتها كلَّ الكون ، وبحسب جلاء هذه المرآة يكون نصوع الصورة فى قلب الصوفىِّ أو الإعتام التَّام فى قلوب العوام ، وليس المقصود بالعوام جمهور الجُهلاء وإنَّما  العامىّْ عندهم قد يكون عالماً كبيراً فى تخَصُّصه  ولكنَّه غافِلٌ عن ثراء باطنه وتجلِّيات الكون على مرآةِ روحه لأنَّ هذه المرآة مُعْتَمة .                                            وبعيداً عن التَّصَوُّف بالمعنى المُتداول بين النَّاس نجد أنَّ التَّصَوُّف له تجليَّات أُخرىَ ، فنجده مثلاً فى الفنَّان عندما يدخل فى أعماق ما يُبدعه سواء أكان فى تمثيل شخصيةٍ ما ، أم إبداع فى قصيدةٍ ما ، أو رسم لوحة أو نحت تمثال ، فهو ينسى شخصيته الحقيقية ويغوص فى أعماق شخصية العمل ، ولذلك قد يُوصف الرَّاسَّمون النَّابغون والمُبدعون ( بالبوهيمية والغرائبية والانزوائية ) وهى أعراض ناتجة عن تلك الحالة الصوفية الَّتى تنتاب هؤلاء حين ينغمسون فى العكوف على مرآة الذَّات ، وبالمناسبة فإنَّ كلمة ( البوهيمية ) مُشتقَّة من أسم منطقة ( بوهيميا ) الموجودة فى جمهورية التشيك وقد اشْتُهرت الكلمة فى فرنسا فى القرن التاسع عشر الميلادى وهى تعنى أنَّ هذا الشخص الذى يُبدِع يميل إلى العيش وفق نمط غير مألوف مُضاد للأعراف والتقاليد وقد انتشر هذا الاسم بعد ما كتب الأديب الفرنسى ( هنرى موجيه ) مجموعة قصصية بعنوان ( مشاهد من الحياة البوهيمية ) التى نُشِرت عام 1845 م ، ثم الَّفَ الموسيقار الإيطالى ( جاكوموبوتشينى ) عام 1896م أوبرا بعنوان ( البوهيمية المُتَشَرِّدة ) وهذه المعلومه على هامش الموضوع ، وأنَّ التَّصَوُّف يظهر أيضاً فى صورة العاشق الَّذى يسمو بحبيبتهِ إلى أعلى مراتب الصفاء وتكون هى سقف أُمنياتهِ ، ويرى نفسه مُتجلِّياً على مِرآة ذاتهِ العاشِقة ، فهو إذا تَولَّه بمحبوبتهِ صار لا يُبصرُ سواها وقد يقتل العاشِق نفسه أحياناً تأسُّفاً على عدم بلوغهٍ محبوبته ، وتلك الحالة من العِشق هى نوع من أنواع التَّصَوُّف .

 وكذلك الحال مع الأنقياء من الثُّوار الَّذين تُسيطر عليهم فكرة حتَّىَ تتملك قلوبهم وأفئدتهُم وتُصبحَ الحياة هيِّنة فى سبيل الوطن الَّذى يثور من أجله وقد يبذل روحه فداءً لهذه الفكرة ولا يبالى .                                  وتختلف مُسميات التَّصَوُّف مع اختلاف اللُّغات والثقافات ، فما يُسمىَ عندنا بالتَّصَوُّف يُسمىَ عند الهنود ( النِرْفانا ) وهى المسيرة التَّقَشُّفية الَّتى يختارها النَّاسك الهندى كثمرة روحانية لحالته ، وفى المسيحية يُسمى ( الرَّهْبَنة ) وفى اليهودية يُسمى ( القَبَّالة أو الكَبَّالة ) وهو إتجاه روحى فى اليهودية يعود تأسيسه إلى ( إبراهيم بن داود ) فى القرن الثانى عشر الميلادى وكان إنتشاره فى القرن الثالث عشر على يد ( إسحق الأعمى ) ويَعود مرجعهم إلى كتاب يُسمى ( الزُّهَّار) وهو موسوعة روحانية بعضها مكتوب باللغة الآرامية والبعض الآخر مكتوب باللغة العبرية وهى تسير بالتجربة الصوفية فى إتجاهين ، الأول منها تأمُّلى وفلسفى ، والثانى عملى يُعنىَ بالسلوك ، ومِمَّا يُثير الاندِهاش ، أنَّه مثلما نَقَمَ السلفيُّون المُسلمون ( أهل الظاهر ) على الصوفيين المسلمين ( أهل الباطن ) ، حدث الشيئ نَفسه عند اليهود فنقم ( الرِّبِّيون ) اليهود على ( القَبَّالة ) وعلى كتابهم المسمى ( الزُّهَّار ) .

وفى التاريخ المسيحى المُبَكِّر كان النَّاس فى مصر يهربون من زراعة الحقول لأن الرومان كانوا يسلبونهم محاصيلهم بعد الحصاد ويأخذون القمح إلى روما بحيث لا يبقى للمُزارع ما يكفى لإطعام بيتهِ طوال العام فيأتى المُزارع ( يُمَرِّغُ ) يَدهُ فى التراب أى يُقَلِّب يده فى التراب ويبحث فيه ، لعلَّه يجد بعضاً من عيدان القمح الَّذى كان عند المصريين يُسمى ( الميرا ) ومن هنا ظهر المثل الشَّعبى ( إن فاتك الميرا إتْمرَّغ فى تُرابه ) ، ولمَّا يأس المُزارعون لجأوا للفرار إلى الجِبال لكى لا يزرعوا الأرض وهرباً من اللَّا جدوىَ ، ولمَّا انتشرت الديانة المسيحية اتُخِذ هذا الهروب كصِبغة دينية ، وراح الهاربون يتَّخذون لأنفسهم مجتمعاً وحياةً جديدةً أطلقوا عليها حياة الشَّركة والدِّيرية ثم صارت هذه الحياة ملمحًا أساسيًا من ملامح المسيحية ، فلمَّا استقرت الديانة كان الهاربونٍ جيلًا بعد جيل قد توغَّلوا فى النصوص واستخرجوا منها معانى روحية تناسب النزوع الإنسانى العام لهذا الولع العُلْوى والهُيام السماوى فأطلقوا عليه أسم ( الرَّهبنة ) وفى الحقيقة ما هو إلَّا نزوعٌ إنسانىٌ أصيل يحدو بالفرد إلى درب السَّماء عبر عمليات تذوُّق خاص وتوغُّل عميق وعكوفٍ على مرآة ذاته .

وفى صدر الاسلام ظهرت مثيلات لهذه الاتجاهات ، كانت تُعرف فى البداية بجماعات الزُّهد وهجر المَلذَّات والرِّحلة فى طلب العِلم  ومُراقبة أصول النَّفس والمُرابطة فى الثُّغور ( الجهاد البدنى والروحى ) ثم تحدَّدت ملامحه وعُرف باسم ( التَّصَوُّف ) من خلال السالكين لدروب الروح والمُحدقين فى مِرآة النَّفس والمُتَأولين لبواطن الآيات القرآنية ، وهؤلاء هم الصوفية المسلمون القريبون جدا من الرُّهبان المسيحين والقَبَّالة اليهود ، وقد قدَّم الصوفيون من خلال قرونٍ طويلة رؤًى عميقة للكون وللإنسان وللدين وللإله وللجمال ، لأنَّ الصوفى يُبحِرُ فى أعماق الأمور  ولا ساحل لبحره ، فعندما يرتفع الصوفىِّ بحسِّهِ المُرهف ٍفوق المظاهر الفانية لِلأشكال الدُنيوية وتغوص بصيرته فى قلب الأشياء لتشهد باطنها المُحتجب وراء هذا الشكل الظاهر يشعر الصوفى فى غمرة هذا الحال بأنَّ العالم اللا مُتناهى قد امتد أمام عين قلبه ( بصيرتهِ ) وصار مرئيًا على نحوٍ لا مثيل له من الوضوح ، وعندما يقف العارف على هذا المشهد الإلهى الَّذى تُطوىَ فيه المسافات وتجتمع الحدود يكون كله أذانًا تَتَسَمَّع تسبيح الموجودات ونجواها مع خالقها فيدرك حقيقة قوله تعالى : { وإنْ مِنْ شيئٍ إلَّا يُسَبِحُ بِحمدِهِ } الإسراء 44 ، فإذا نظر الصوفى فى معنى هذه الآية القرآنية الكريمة أدرك أنَّ خرير الماء تسبيح وهديل الحمام تسبيح وتغريد الطيور تسبيح وصمت السواكِنِ تسبيحٌ للخالق عزَّ وجل ، ويقرأ الصوفى قوله تعالى : { وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلَّا ليعبدونِ } الذاريات 56  فيعرف أنَّه ما من موجودٍ إلَّا وهو مجبولٌ على عبادة الخالق ومفطورٌ على طاعته ، وهنا نجدُ أنَّ الصوفى الجليل ( عبدالكريم الجيلى ) يُؤكِدُ لنا أنَّه لا يُوجد مخلوقٌ إلَّا وهو يعبُد الله إمَّا بحاله أو بمقاله أو بفِعاله أو بذاته وصِفاته ، فكل ما فى الوجود هو عابدٌ لله بالضَّرورة ، حتَّى الملاحِدة والزَنادِقة والخارجين عن دين الحق كلُّهم عابدون لله فهو الَّذى يهدى ويُضِل ، فلابد من ظهور تجلِّيات الهداية والضَّلالة فى خلقه ، فكما يجب ظهور أسمه تعالى ( المُنعِم ) يجب كذلك ظهور أثر اسمه ( المُنتَقِم ) ، وجاء اختلاف عبادات أهل الديانات من اختلاف مُقتضيات الأسماء والصِّفات الإلهية ، فالله تعالى يقول { كان النَّاسُ أُمَةً واحدةً فبعث الله النَّبيين مُبَشِّرين ومُنذرين وأنزلَ معهُم الكتابَ بالحق ليحكُم بينَ النَّاسِ فيما اختلفوا فيه } البقرة 213 ، وذلك يعنى أنَّهُم كانوا مَجبولين على عبادته فى الأساس بالفِطرة الَّتى فطَرَ اللهُ النَّاسَ عليها ، ثم بعث الله النَّبيين مُبشرين ومُنذرين لِيعبده من اتَّبعَ الرُّسل من حيث اسمه الهادى ، وليعبده من خالف الرُّسل من حيث هو ( تعالى ) المُضِلُّ لِمن يشاء ، فاختلف النَّاس وافترقت المِلل ، حين استمسكت كلُّ طائفةٌ بما اعتقدت أنَّه الصَّواب واليقين الوحيد ، فمنهم من انشغل بالدُّنيا وغفل عن فحوى الوقائع الإلهية المُتَجلِّية فى الكون وأنْكَروه ، فكانوا هُم الكُّفَّار ، والكُفر فى اللُغة وفى المَفهوم الصوفى يعنى الإخفاء كما جاء فى لآية القرآنية { كمثل غيثٍ أعجَبَ الكُّفَّارَ نباته ثمَّ يهيج فتراه مُصفَرَّاً ثُمَّ يكونُ حُطاماً وفى الآخرةِ عذابٌ شديد } الحديد 20 ، ومنهم من ذهب إلى عبادة الأوثان والأصنام ظانين أنها تُقرِّبهم إلى الله زُلفا ، ومنهم من عبد الكواكب وهؤلاء هُم الصابئة ، ومنهم من ذهب بعقله إلى عبادة ( النُّور والظُلمة ) وقالوا إنَّ للكونِ إلهين ، إله النور ويُسمى ( يَزدان ) وإله الظلام ويُسمى ( إهرِمن ) وهؤلاء هم ( الزِرادشتية ) نسبةُ إلى اسم نَبىٍ لهم كما يَدَّعون اسمه زرادِشت ،وقيل عنهم ( الزنادقة )  نسبة إلى كتابهم المُسمى ( الزِندافيستا ) ثُمَّ تحوَّلت كلمة زنادقة بمُفرَدِها إلى ( زِنديق ) وصارت تَعنى عند المسلمين الكُفر ، وآخرون ذهبوا بعقولهم إلى أنَّ الحياة أصلها من حرارة الجو وبرودته فعبدوا النَّار وأولئك هم ( المَجوس ) ، وآخرون وجدوا أنَّ الدَّهر يسير من الأزل إلى الأبد كأعمى ضّلَّ وِجْهَتَهُ فتركوا العبادة كلها وهؤلاء هم ( الدَّهريون أو الملاحدة ) ، وحسبما يرى عبدالكيم الجيلى أنَّ أهل هذه الطوائف منهم من هو فى الجَنَّة ومنهم من هو فى النَّار ، ففى الأزمنة السحيقة وفى النواحى التى لم يصل إليها دعوة الرُّسُل ، كان هناك دومًا من يفعلون الخير ٍوهم فريق الجنَّة ومن يفعلون الشَّر وهم فريق النَّار وذلك حسب الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، أمَّا بعد نزول الشرائع فالحساب يكون على ما اقتضاه أمر الله وما نهى عنه فى الشرائع .

وصَفَ الفيلسوف اليونانى ( أرسطو ) الفن بأنَّهُ أسمى أنواع التَطهُّرمؤكِداً أنَّ للفن أهدافاً مُتفاوتة القيمة ، منها التسلية والترفيه ومنها شَغل أوقات الفراغ مع الشعور باللَّذَّة الجمالية ، ومنها التَقَمُّص الوجدانى الَّذى يَغوصُ فيه الفنَّان المُتّذَوِّقُ للعمل الفَنِّى حَتَّى يغيب عن ذاتهِ وقتاً ليس بقَصير ، ومن هنا يحدث للفنان حالة من التَطَهُّر النَّفسى بأن يسمو بروحه فوق كل الحِسِّيَّات وصولاً إلى المعنى العميق الكامن وراء الظاهر الحِسِّى للعمل الفنى ، وتلك الحالة ما هى إلَّا تَصَوُّف .

الصوفيون والشَّطَحات الصوفيَّة

 أولاً : جلال الدين الرُّومى

فمن هنا نجد أنَّ التَصَوَّف هو عُمق للعاطفة الدينية ، فمن الطبيعى أن يرتبط بالفن الَّذى هو بطبيعته يُعَبِّر عن هذه العاطفة ، ومن هنا نستطيع أن نفهم قول مولانا جلال الدين الرومى ( لا يَفنى فى الله من لا يَعرف قوة الرَّقص ) والإشارة هنا إلى ما نعرفه اليوم باسم ( رقصة الدراويش ) أو ( رقصة التَنُّورة ) وهى فى الحقيقة فنٌ خاصٌ فَقَدَ مؤخَّراً معناه الصوفى وصار عرضًا فلكولوريًا يًقَدِّمه الرَّاقِصون فى الأفراح والملاهى الليلية ، حيث يدور أحدهم دورة رشيقة الحركة حتَّى تَصل التَّنُّورة الواسعة إلى أقصى إرتفاع فوق رأسه ، والمعنى الحقيقى وراء ذلك ما هو إلَّا تقليد أعمى  لا يُدرك الرّاَقِصُ مغزاه ، الَّذى هو أصلاً يُسمىَ بالرَّقص المولوى نسبةً إلى الصوفى مولانا جلال الدين الرُّومى الَّذى يدور فيه الصوفى حول نفسه فى حركةٍ دائرية كحركة الكون ، بحيث يستشعِر الرَّاقص أنَّه مركز الوجود كله ، ومن ثَمَّ فإنَّ عليه مواصلة الرَّقص  بقوةٍ مُتصاعِدة  حتَّى يتخَلَّص مِن العلائِق الدُنيَويَّة والارتباطات الحِسِّيِّة الَّتى تُمَثِّلُها تَنُّورةُ الرَّقص الَّتى لابد فى النِّهاية من طرحِها بَعيداً كعلامةٍ على التَّخَلُّص مِن احكام الحِسِّ .

والرَّقص المولوى يرتَبِط بِفَنٍ صوفىٌ آخر ، هو موسيقى النَّاى الَّتى برع فيها صوفية المولوية  انطلاقاً من المعنى الَّذى أشار إليه جلال الدين الرُّومى فى ديوانه الشِّعرى الهائل ( المَثنوى ) والَّذى يتألَّفُ من سِتَّةً وعِشرين ألف بيتٍ شِعرى وترجمه إلى العربية ( الدكتورإبراهيم شتا ) حيث ربط جلال الدين الرومى بين الرَّوح الإنسانى الَّذى هبط من الجوار الإلهى والبوصة الَّتى قُطِعت  من منبتِها فصارت ناياً وبات كلاهُما يحِن إلى أصلهِ فيقول:

اسْتَمِع إلى صَوتِ النَّاى

كيفَ يَبُثُ آلامَ الفِراق

ويقول أيضاً :

مُنذُ قُطِعتُ مِنَ الغاب

والنَّاسُ تَبكى لِبُكائى

إنَّنى أُنْشِدُ صَدْراً مَزَّقَهُ الحَنين

ثانياً : رابعة العَدَويِّة

ولطالما تعرَّضنا لذِكر العزف على النَّاى فلا يفوتنا أن نذكر من صوفية النِّساء ( رابعة العدوية ) الَّتى ظهرت فى الزَّمن العباسى وكانت أمَةً ( مملوكة ) لسيدها ( رباح بن عمرو القيسى ) وعتقها فى سِن الحادية عشرة من عمرها لمَّا وجد فيها الزُّهد فى الحياة وكانت مِن مُحبِّى العزف على النَّاى حيثُ كانت تجدُ فى صوت النَّاى راحةً نفسيَّة تسمو بها بعيدا عن الكون ، وبعد عِتقها خرجت إلى الصحراء لتُجاور المُتَصَوِّفين أمثالها فى أطراف البَصرة ، ولمَّا اشتاقت نفسها لزيارة بيت الله الحرام خرجت إلى الحج مع إحدى القوافل ، ولمَّا شاهدت الكَعبة للوهلة الأولى وقفت أمامها فى ذهول وقالت مقولتها الشَّهيرة ( ما هذا الوثن الَّذى يسجد له النَّاس ، واللهِ ما وَلَجَ اللهُ فيه ولا خلا ) ويُعَدُّ هذا من الشَطحات الصوفية وقالت أيضاً ( واللهِ ما عَبَدّتك خوفاً من ناركَ ولا طمعاً فى جنَّتك وإنَّما أعبُدكَ لأنَّكَ تستحق العِبادة ) وأيضا هذه من الشطحات الَّتى تذهب بالمُتصَوِّف إلى أبعد من المألوف فهو يسمو فوق مدارك العقول حيث يرى بقلبه ما لا يراه غيره ، أمَّا ما ذكره عنها الأستاذ الأديب الكاتب الكبير ( عبد الرحمن بدوى ) فى كتابه ( شهيدة العِشق الألهى ) وجُسِّد فى فيلمٍ سنيمائى بأنَّها كانت تَرقُص وتُمارس البَغاء ، ثُمَّ تابت إلى الله وصارت عابدة ومُتَصَوِّفة ، وهذا غير صحيح ، وما كان إلَّا عن عدم إلمام ومعرِفة كاملة عن حياة رابعة العدوية معرفةً دقيقةً .

ثالثاً : الحَلَّاج ( أبوالمُغيث الحسين بن منصور)

( أيُّها النَّاس ، اعلموا أنَّ اللهَ قد أباح لكم دمى ، فاقتلونى ، اقتلونى تؤجروا وأسترح ، أقتلونى تُكتبوا عند الله مُجاهدين ، وأُكتَبُ أنا شهيد ) .. كانت تلك العبارة ( الصَّرّْخة ) الَّتى صاح بها الحلَّاج وسط النَّاس فى أسواق بغداد ، بعد ما أجْمع عليه الشَّوقُ إلى الله والضَّيقُ من اضطهاد أهل زمانه له ، ولمَّا نصَحه المُقَرَّبون منه بالكتمان ، خشية أن يُحكَمُ عليه بالصَّلب والقتل ، حسب ما كان يحدثُ فى زمانه ، قال ( من كُوشِفَ بالمُباشرة ولوطِفَ بالمُجاورة ، وترقَّىَ بعد أن توَفَّىَ ، وتَحَقَّقَ بعد أن تَمَزَّقَ ، وتَمَزَّقَ بعد أن تَزَنْدَقَ ، وتَصَّرَّفَ بعد أن تَعَرَّفَ ، وخاطَبَ وما راقبَ ،وتَدَلَّلَ بعدَ أن تَذَلَّلَ ، وقُرِّبَ لمَّا خُرِّبَ ، وكُلِّمَ لَمَّا كُرِّمَ ، فما قَتَلوهُ وما صَلَبوهُ ) ..

لماذا تَمنَّىَ الحلَّاج الموت كما تمَنَّاه غيره من المُتَصَوِّفين كالإمام البُخارى والإمام أحمد بن حنبل وكثيرون .

لَمَّا زادت شطَحات الحَلَّاج تَكالب عليه أهل الحِسبة ( المُحتَسِبون ) الَّذين حكموا بكُفرهِ ولم يكتَفوا بالمُطالبة بالتَّفريق بينه وبين زوجتهِ ، وإنَّما سَعوا به حَتَّى فَرَّقوا بين جِسمهِ ورَوحهِ ، وما الَّذى قاد الحَلَّاج إلى مصيره المُفجع الَّذى تنوَّعت فيه صنوف العذاب ما بين السِّجن والضَّربِ بالسَّوط ، وقَطع اليَدين والرِّجلين ، ثُمَّ الصَّلب والذَبح وإحراق جُثَّتهُ ونثر رمادها فى الهواء ، إنَّ معرفة ذلك تقتضى التَّعَرُّف على بعض ملامح حياة الحَلَّاج وسيرته .

كان مولد أبى المُغيث الحُسين بن منصور الحًلَّاج فى مُنتصف القرن الثالث الهِجرى ببلدة ( البيضاء) بفارس ( إيران ) ، وفى سنٍ مُبَكِّرة ارتَحل من بلدتهِ لطلب العِلم ، ولقاء المشايخ وسلوك الطَّريق الصوفى فطاف فى أنحاء العالم الإسلامى ، وزار مُدناً كثيرة وأقام بعض الوقت فى البصرة ومَكَّة ، ورابط بالهند وبمشارق العالم الإسلامى ، فصار له مُريدون وأتباع ظلُّوا يُراسلونه بعد إستقراره فى بغداد ، ويذكر المؤرِّخون أنهم كانوا يُكاتبونه من الهند بلقب ( المُغيث ) ومن خُراَسان بلقب ( أبى عبدالله الزَّاهِد ) ، ومن تُركستان بلقب ( المُقيت ) ، ومن خُوزستان بلقب ( حلَّاج الأسرار ) ، وكان تلاميذه فى بغداد يسمونه ( المُصطَلِم ) ، وفى البصرة يُسمونه ( المُحَيِّر) .

ولو كان الحلاَّج قد قضى حياته خامل الذِّكر لا له ولا عليه لَما كانت الويلات قد حاقت به ٍولا كان قد تَعَرَّضَ للحَسد والحِسبة والمِحنة ، لكن شهرته الواسعة ومكانته الرُّوحية عند كثيرين من أهل زمانه ، والرُّموز والتَّشبيهات الَّتى استعملها فى شعره ومقالاته أدَّت جميعًا إلى إطلاق الاتهامات الكثيرة والعجيبة عليه ، وذكر لنا المؤرخ ( الذَّهبىِّ ) بعضها ، ويمكن أن نستخلص منها الاتِّهامات التالية : ( الكُفر ، مُمارسة السِّحر ، الزَّندَقة ، الشَّعوَذة ، التَّشَيُّع ، إدِّعاء النّبوُّة ، تَناسُخ الأرّْواح ، تسخير الجن ، إدِّعاء الألوهيَّة ، الجنون ، الحلوليَّة ، التَّآمر على السُّلطة ، النَّصب والاحتيال ، مُحاولة الزِّنا بالمحارم ، هدم أركان الدِّين ) إنَّ هذه التُّهَم لا يمكن  أن تُصَدّْق كلها على شخصٍ واحد حتى ولو كان الشَّيطان نفسه ، ومع كثرة التُّهم وزيادة الشَّائعات ، قال بعضهم للحلَّاج إنَّ النَّاس مختلفون فى أمره ، بين فريق يتَّهِمهُ وفريقِ يُبَجِله ، فرد عليه الحلَّاج بأنَّ الَّذين يُبجِلونه يُحبونه وينحازون إليه ، والَّذين يُهاجمونه يُحبون الله وينحازون إلى الشَّريعة ، فالفريق الثانى هو الأقرب للحق ! وقيل له إنَّ فى أشعارِك ما يدعو للحلولية والتَّجَسُّد ، فقال : من زعم أنَّ الألوهية تمتزج بالبشرية ، فقد كفر ، وقالوا له أنت كافرٌ حلال الدَّم ، فقال : دَمى حِمىَ وظهرى حرام ، ولا يحل لكم أن تتأوَّلوا علىَّ بما يبيحه ، وأنا اعتقادى الإسلام ومذهبى السُّنَّة ، فالله الله فى دمى .

بدأت محنة الحلَّاج فى زمن الوزير العباسى ( علىَّ بن عيسى ) الَّذى انتابه قلق من شعبية الحلَّاج وشهرته ٍ، فاستمع إلى الوشايات الزَّاعمة أن الحلاج نصيرٌ للقرامطة الثائرين على الحكم العباسى ، فأمر الوزير بحبس الحلاج ، لكن السجن لم يكن كافياً ، خاصَّةً أنَّ المسجونين والسجَّانين لاحظوا طيلة سنوات حبسه أنه كان كثير العبادة ودائم الصلاة ليلًا ونهارًا ، وقد سُجِنَ معه وزارهُ فى السجن ، بعض مشايخ عصره المعروفين مثل ( أبو العطا بن خفيف ) الَّذى سُئل عن اعتقاده فى الحلَّاج فقال : رجلٌ من المسلمين ، فقالوا قد كَفَّره المشايخ وأخرجه الناس من ذُمرة الموحدين ! فقال : إن كان الذى رأيته منه فى الحبس لم يكن توحيدً فليس فى الدنيا توحيد .

وابتدأت محاكمة الحلاج فى زمن الوزير العباسى ( حامد بن العباس ) الذى داهم بالعسكر بيت الحلاج الذى كان مسجونا من قبلها بفترة ، وأخذ منها دفاتر وكتبًا .                                                           يحكى ( الخطيب البغدادى ) فى كتابه ( تاريخ بغداد ) و ( وشمس الدين الذهبى ) فى كتابه ( سير أعلام النبلاء ) ما يلى : كان الوزير حامد يُخرِج كل يوم الحلاج من السجن إلى مجلِسِهِ ليَظفَرَ منهُ بسقطةٍ  فكان الحلاج لا يزيد عن الشهادتين وإظهار التوحيد والشريعة ، وجاء حامد بجماعة  اعترفوا باعتقادهم أن الحلاج إله ، وأنه يُحيىَّ الموتىَ ، فواجه الحلاج بذلك فجحده وكذَّبهم قائلًا : أعوذ بالله أن أدَّعى النبوة أوالربوبية ، إنما أنا رجل اعبدُ الله ، وأُكثر من الصلاة والصوم وفعل الخيرات ولا أعرف غير ذلك .

ويحكي لنا التنوخى ( نِشْوار المُحاضرة ) أنَّ الوزير حامد جاء إلى الحلاج بالكتب والدفاتر التى جلبها العسكر من داره أثناء سجنه ، وقال له ما معناه : وجدنا فى كُتُبِك رسائل من أناسٍ يزعمون أنك المهدىُّ المنتظر ، وآخرين يزعمون أنَّك الله ، فما تفسيرك لذلك ؟ فأخذ الحلاج يدفع عنه هذه الكتب وهو يقول : هى كتب لا أعرفها وهى مدسوسةٌ علىَّ ولا أعرف ما فيها ولا معنى لهذا الكلام .

واحتار الوزير ( حامد ) فى أمر الحلاج ، واحتال لقتله ، فلجأ إلى الفقهاء من ( أهل الحِسبة ) الذين هم أشباه فقهاء السوء فى كل زمان ، من ذوى الميل إلى الوزير والسلطان والحاكم ، ففتش هؤلاء فى فؤاد الحلاج ونقَّبوا فى أفكاره ، وأمروه أن يَكتُب ( اعتقاداته ) فى صفحات ثم عرضوا ذلك على المشايخ حتى يظفروا بسقطةٍ ما ، فما استطاعوا ، ومع ذلك عقدوا للحلاج محاكمة ( مغلقة ) جاءت أخبارها فى كتب التاريخ كما يلى :

وجدوا فى كُتب الحلاج عبارة تقول إنَّ الإنسان إذا عجز عن الذهاب إلى الحَجِّ ، يعمد إلى موضع فى بيته فيُطهِّره ويعمل فيه ما يشبه المحراب ، ثم يغتسل ويُحرم ، ويطوف سبعة أشواط فتُحسب له حِجَّة ، فأقرَّ الحلاج بأن ذلك الرَّأى مكتوباً فى ( كتاب الإخلاص ) للحسن البصرى ، فزعق فيه الفقيه القاضى ، أبو عمر : كذبت يا حلال الدَّم ، هذه زندقة يجب بها القتل فتعلَّق الوزير حامد بما قاله الفقيه أبو عمر وأمر بكتابته ، فتشاغل أبو عمر بالكلام مع الحلاج فألح عليه الوزير حامد وقدَّم له الدواة فكتب بإحلال دمه ، ودعا الوزير بقية الفقهاء ٍلتأييد الحُكم ، فقال له الفقيه الأخر ( أبو جعفر البهلول ) الذى كان يشارك فى محكمة الحلاج : لا يجب بهذا قتلٌ إلَّا إذا أقرَّ الحلاج أنه يعتقده ، لأن النَّاس قد يرون الكفر ولا يعتقدونه ، فلم يأخذ الوزير حامد بهذه الفتوى ، وراح يجمع توقيعات الفقهاء الحاضرين على الحُكم بالإعدام ، والحلاج يصيح ظهرى حِمى ودمى حرام ، فلن يلتفت إليه أحد من الحاضرين ، ثم أرسل الوزير بالتوقيعات التى جمعها إلى الخليفة العباسى ( المقتدر ) واستأذنه فى قتل الحلاج ، وألحَّ عليه ، فأذن له الخليفة ، وفى الصباح استدعى الحلاج وضربه ألف سوط ، فما تأوَّه وما زاد عن ترديد أحدٌ أحد ، فرفعوه على الصليب وقطعوا يديه ، ثم رجليه ثم حزُّوا رأسه بالسيف ثم أحرقوا جثته وحملوا رماده إلى منار المسجد وألقوه فى الهواء لِتُسفيه الرياح ، كان ذلك فى عام 309 من الهجرة .

ومع إنَّ المؤرخ (شمس الدين الذهبى ) الذى عاش بعد الحلاج بأربعة قرون من الزمان ، وهو الذى ذكر أخباره ، لم يكن يحب سيرة الحلاج ويتشكك فى عقيدته إلَّا أنَّه حكى ما كان له وما كان عليه وذكر فى أثناء كلامه رأيه وهذا نصَّهُ :

ما ينبغى لك يا فقيه أن تُبادر إلى تكفير المُسلم إلَّا ببرهانٍ قطعىٍّ ، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيما قد تُبرهن زَغَلهُ ، فلا هذا ولا ذاك ، بل العدل أنَّ من رأه المسلمون صالحاً مُحسنًا فهو كذلك ، وأنَّ من رأه المسلمون فاجرًا منافقًا فهو كذلك ، أمَّا من كانت طائفة من ألأُمَّةِ تُضلله ، وطائفة تُثنى عليه وتُبَجِّلَهُ ، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورَّع من الحَطِّ عليه ، فهو مِمَّن ينبغى أن يُعرَض عنه ، وأن يُفَوضَ أمره إلى الله ، وأن يُستغفر له فى الجُملة ، لأن إسلامه أصليٌّ بيقين ، وضلاله مشكوك فيه ، فبهذا تستريح ، ويصفو قلبك من الغِلِّ للمؤمنين ، ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم مؤمنهم وفاسقهم ، إلَّا الصَّحابة ، لم يُجمعوا على مُسلمٍ بأنه سعيدٌ ناجٍ ، ولا أجمعوا على مُسلمٍ بأنه شقىٌّ هالك ، حتى إن أبا بكر الصديق وهو فرد الأمة ، تفرَّقوا فيه ، وكذلك عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلى بن أبى طالب وابن حنبل والشافعى والبخارى والنسائى وهَلُمَ جر من ألأعيان فى الخير والشر إلى يومك هذا ، فما من إمامٍ كاملٍ فى الخير ، إلَّا وهناك أناسٌ من جَهَلةِ المسلمين سيُذِمونه ويَحُطُّون عليه ، وما من رأسٍ فى البدعة إلَّا وله أناسٌ ينتصرون له ، فانصف وتورَّع واتَّق وحاسب نفسك ، وإذا شككت فى شخصٍ ولم تعرف حقيقته فتبرَّأت مما رُميَّ به أرحت نفسك ولم يسألك الله عنه أصلاً .

ونكتفى بهؤلاء لكثرةِ عددِهم .

حقيقة التَّصَوُّف :

 ونَخلص من هذا أنَّ التَّصَوُّف هو ليس فقط مربوطًا بالتَدَيُّن ، وإنَّما هو نزوعٌ إنسانىٌ أصيل يحدو بالفرد إلى درب السَّماء عبر عمليات تذوُّق خاص وتوغُّل عميق وعكوفٌ على مرآة ذاته . ، لأنَّ الصوفى يُبحِرُ فى أعماق الأمور ولا ساحل لبحره ، فعندما يرتفع الصوفىِّ بحسِّهِ المُرهف ٍفوق المظاهر الفانية لِلأشكال الدُنيوية وتغوص بصيرته فى قلب الأشياء لتشهد باطنها المُحتجب وراء هذا الشكل الظاهر يشعر الصوفي فى غمرة هذا الحال بأنَّ العالم اللا مُتناهى قد امتد أمام عين قلبه ( بصيرتهِ ) وصار مرئياً على نحوٍ لا مثيل له من الوضوح .

وقد أورَد الحلَّاج فى كتابه ( الطاواسين ) تَخَيُّلًا صوفيَّا لقصة إمتناع إبليس عن السُّجودِ لِآدم عليه السلام { وإذْ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لآدمَ فسَجَدوا إلَّا إبليسَ أبىَ واستَكبرَ وكان من الكافرين } البقرة 34 . 

يقول الحلَّاج مِن وجهة نَظرهِ التَّخَيُّليِّة أنَّ فى هذه القِّصَّة مُخاتَلة وكان تَصَّوُّرهُ لهذه المُخاتلة ما يلى : 

( ما صَحَّتْ الدعاوى لأحدٍ إلا لإبليس ولأحمد غيرَ أنَّ إبليس سَقَطَ من العَين وأحمد كُشِفَ له عنْ عين العين ، قيل لهذا أُسجد وقيل لهذا أانظر ، هذا ما سَجد وذاك ما نَظر ، قال اللهُ لإبليس أُسجد فما سجد ، قال أنا خيرٌ منه لِأنَّ لى قِدمَةَ فى الخِدْمة وليسَ فى الكَونينِ أعرفُ مِنِّى بِكَ ، ولى فيكَ إرادة .. ولك فىَّ إرادة ، إرادتُك سابقة إنْ سجدت لغيرك ، قال ألا تَسجُد يا مَهين .. قال مُحِب والمُحِب مَهين ، وأنا قرأت فى كتابٍ مَكين ما يجرى علىَّ ذا القوةِ المَتين ، قال فإنِّى أُعَذِّبُك عذاب الآبدين ، قال خلقتنى من نار .. والنَّارُ ترجعُ إلى النَّار فلك التقديرُ والإختيار .. وما كان فى أهل السَّماء موحِدٌ مثلَ إبليس .. ولكِنَّهُ عَبَدَ اللهَ عن التَّجْريد .. ولُعِنَ حين وصلَ إلى التَّفْريد .. وطُلب حين طَلب المزيد ، ولمَّا التقى موسى بإبليس على عتبة الطور ، قال موسى يا إبليسُ ما منعكَ عن السُّجود ، قال منعنى الدَّعوىَ بمعبودٍ واحد .. فأنت نُوديتَ مرةً واحدة أن انظر إلى الجبل فنظرت ، ونوديتُ أنا ألف مرة أن اسجد .. فما سجدت لدعواي بمعناه ، قال عصيت الأمر .. قال يا موسى كان ذلك إبتلاءً لا أمرًا .. يا موسى ذا وذا تلبيس ، والحال لا مُعَوِّلَ عليه لأنَّه يَحُول .. وقتي الأن أصفىَ وذكرى أجلىَ .. أنا مذكورٌ وهو مذكور، فى القِدَم كُنتُ أعبُدهُ لحَظِّى .. والآن أعبُدهُ لحَظِّهِ ) .

كانت تلك رؤية الحلَّاج الَّذى أورَدَها فى كتابه ( الطَّاواسين ) وكانت تلك مأساة الحَلَّاج ومِحنَتَهُ مع التَّصَوُّف .

ممدوح العيسوى

     

   

 

تعليقات الفيسبوك

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*

الإنضمام للجروب
صفحتنا على الفيسبوك
الأكثر قراءة
مختارات عالم الفن
شخصيات عامة