تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ❤️

اللقلق واللفافة

اللقلق واللفافة

كتب صباح الجميلى

مينوتي ذلك المقهى الإيطالي الصغير والهادئ نسبيا والذي يقع على تقاطع شارع فوندرن وشارع ويستهايمر وفي قلب مدينة هيوستن، والداخل اليه يلاحظ بوضوح رواده من الطلبة مع أجهزة الحاسوب المحمولة (اللابتوب) وكتبهم وأوراقهم منهمكين على القراءة والكتابة، وهنالك البعض من رواده لهم أحاديثهم المسموعة وأحيانا ضحكاتهم العالية.

دلف إلى المقهى صبري جميل وهو شيخ كبير قد تجاوز عقده الثامن واتخذ مجلسه في ركنه المفضل في المقهى، أخرج أوراقه من الحقيبة التي يحملها وطلب كأسا من قهوته المفضلة يرتشف منها وعينه على أوراقه وهو يفكر ماذا يكتب والأفكار مزدحمة في فكره وقلبه.

سرح الشيخ صبري في أفكاره مستذكرا شريط حياته، طفولته وما يذكر منها، صباه وشبابه وأيام دراسته في المراحل الثلاث الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم دراسته الجامعية وما رافقها من صعوبات أثنائها وبعدها حتى أنهى خدمته الوظيفية والتي أنهكته في كافة المجالات طيلة خمسٍ وعشرين سنة. وهو في شريط ذكرياته هذه وأوراقه أمامه كما هي وكأنما كان يقرأ ما على صفحاتها البيضاء وما بين سطورها التي لم يمسها يراعه، شعر أن هنالك من يراقبه، أخذ رشفة من قهوته واسترق النظر، نعم كان هنالك من يطيل النظر إليه، إنه شيخ كبير يقاربه بالعمر جالسا على المنضدة التي أمامه وعلى وجهه علامات حزن بادية وكأنها لوحة كئيبة تنساب منها دموع تسقي التجاعيد التي خلفتها السنون، وما كانت تلك العلامات تخفى على الشيخ صبري الذي خبر الدنيا وخبرته، وما أن تلاقت نظراتهما ولاحظ علامات الاستغراب على وجه الشيخ صبري حتى قام من مكانه مستندا على عكازته وجاءه مسلما مستأذنا أن يجلس قائلا:

– اسمي سالم وإني أعتذر، ما كان قصدي أن اقطع عليك خلوتك ولكني أريد أشكو غدر الزمان وغدر الأهل والخلان وإن كان الشكوى لغير الله مذلة

– تفضل بالجلوس، قال الشيخ صبري مبتسما، ثم طلب له قدحا من القهوة، ثم قال له:

– تفضل كلي آذان صاغية

أخذ رشفة من قدح القهوة ثم قال:

– هل تعرف قصة اللقلق واللفافة؟

– نعم أليست هي القصة التي تروى للأطفال؟

قال : نعم، إنها من الاساطير المتداولة منذ قديم الزمان في البلدان الأوروبية، أن الأطفال المولودين حديثا لا تلدهم أمٌ، بل يأتي بهم اللقلق حاملا بمنقاره لفافة فيها طفل حديث الولادة والمقدر أن يكون لعائلة معينة محددة وحسب نظام دقيق ويرميه في مدخنة البيت ويستقر في المدفأة فيأخذاه الأب والأم ثم تقوم الأم برعايته وإرضاعه ويتعاونا الأب والأم على تربيته وتعليمه ويسهرون الليالي على راحته ويأخذاه الى الطبيب إن تصيبه وعكة صحية ثم يدخلاه المدرسة ليتعلم ويكبر وقد يكمل دراسته الجامعية ودراسته العليا وحتى يكبر ويشتد عوده فيختار طريقه في الحياة ويختار شريكة حياته ويبني بيته مع المدفأة والمدخة ويتلقى هو كذلك طفلا بلفافته يرميه اللقلق في المدخة وهكذا تستمر الحياة …

ونحن صغار، هنالك مصدق وهنالك مستغرب، وفي النهاية نرى منهم من وفى وكان بارا بوالديه ومنهم من كان عاقا، وهذه هي الحياة لا أمن فيها ولا أمان.

أما ما يثير العجب إن البعض من الأبناء يعتقد أن اللقلق لم يرميه من مدخنة الدار رضيعا حديث الولادة، ولم يربيه والداه ولا سهروا الليالي لرعايته ولم يصرفوا عليه حالهم ومالهم وصحتهم حتى بلغ أشده بل أن اللقلق جاء به على عرش من ذهب مرصع بنفيس الأحجار الكريمة وممسكا شهادته العليا بيد وساحبا بيده الأخرى شريكا لحياته جاهزا ويطرق الباب بمنقاره قائلا: هذا ابنكم استلموه وبروه فهو المتفضل عليكم ولا تعصوا له أمرا.

أجاب الشيخ صبري والابتسامة لا تغادر وجهه، إني مصغٍ أكمل

تنهد سالم بألم وحسرة، وقال: هذا ما حصل لي من أبنائي، لقد كرست حياتي مع شريكة حياتي والتي شاركتني المسؤولية في نشأتهم حتى نوالهم الشهادات العليا في الطب والصيدلة والعلوم الأخرى وأصبحوا عناصر مرموقة في المجتمع أساتذة في الجامعات وموظفين يشار إليهم بالبنان، ثم استقر كل واحد منهم مع شريك حياته وكل في بيت ملكه، أما أنا وبعد رحيل شريكة حياتي الى جوار ربها أصبحت وحيدا وعيني وقلبي على أبنائي وأحفادي وأسباطي، شاكرا الله ومؤملا أني لن أضيع أو أُذل بعد شيبتي، تنهد سالم ولمعت دمعتين تلقاها بكفيه قبل ان تسقي وجنتيه، ثم جاء ذلك اليوم الذي ايقظني من حلمي، مجتمعين في حديقة الدار مع أبنائي ويا ليتني لم اشهد ذلك اليوم، يا ليتني مت حاملا معي حلمي بأنهم سندي بعد شيبتي.

أخذ سالم قدح القهوة وشرب منه قليلا ثم استطرد قائلا مكفكف لؤلؤتين قبل ان تسقي وجنتيه: في ذلك اليوم شعرت بهم وكأنهم غسلوني وكفنوني ودفنوني ويتناقشون حول الميراث وأنا بينهم أسمع وأرى والألم يعصر قلبي ولست مصدقا ما أسمع ومكذبا عيني عما أرى حتى نفد صبري فقلت لهم إن هذه الدار التي بنيتها بعرق جبيني لم يبقى لي فيها شيئا بعد رحيل شريكة حياتي الى جوار ربها، سأبيعها وأهاجر وأعيش غريبا بسبب موقفكم هذا ولأني لن أستطيع البقاء فيها بعد رحيل من كانت عموده ونوره، ثم تركتهم ودخلت للبيت.

نظر سالم لي وقال: أرى أن الابتسامة ما غادرت وجهك، فأجبته: وما أكثر الابتسامات على الوجوه وهي تخفي أحزانا دفينة، أكمل حديثك أخي المفجوع فإني مصغٍ إليك

ثم استطرد ولكن المأساة والكارثة التي أشفقت عليهم منها، فإني جمعتهم وأخبرتهم أني بعت البيت، وهم غير مصدقين، وأخبرتهم بأني استلمت ثمنه واحتفظت بقسم منه لعلاجي وتسوية بعض الالتزامات المالية والقسم الاخر سأعمل به مشروعا لكم بعد رحيلي إن شاء الله. وهكذا كان تركت البلد وجئت هنا.

قال الشيخ صبري: هذه المأساة ولكن أين الكارثة؟

قال سالم: لقد أطلت عليك، أسألك بالله أن تتحملني، إن الكارثة وأنا في بلاد غريبة للعلاج انهالت علي الشتائم والدعاء علي وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وترى المعلقين والمعقبين فمنهم من كان مصدوما لما فعلت وآخر اصبح شيخ دين ويفتي بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان وآخر نصب نفسه قاضيا وجلادا في نفس الوقت وهكذا تحقق المثل القائل (ما صدقوا أن وجدوا عزاء حتى يشبعوا لطم)، وإحداهن تقول سأفضحه وما علمت المسكينة أنها فضحت نفسها، حسبي الله ونعم الوكيل، قل أيها الشيخ الجليل لماذا أقابل هكذا ممن ضحيت لأجلهم بمالي وصحتي، لماذا لماذا كل ما عملته لما رأيت موقفهم المخزي أني بعت ما أملك لأعالج نفسي وحتى لا اكلف أي منهم برعايتي، قل لي بالله عليك لماذا؟

فأجاب الشيخ صبري والابتسامة ما فارقت وجهه: أنت لم تعمل خطأ قسما ولا أدري بماذا أجيب أنما أنت قل لي ما هو عمل الخير الذي عملته حتى يحبك الله هكذا؟

– يحبني وبعد كل هذا!!!

– نعم يحبك إذ كشف لك ما كنت تجهله وأيقظك من وهم كنت متعلقا به، أخي الكريم قل (الحمد لله الذي كشف لي ما كنت أجهله).

انفرجت أسارير سالم وبان الارتياح على وجهه ثم استأذن للانصراف فقام مودعا وهو يردد، الحمد لله الذي كشف لي ماكنت أجهله، الحمد لله الذي كشف لي ماكنت أجهله، الحمد لله الذي كشف لي ماكنت أجهله…

صباح الجميلي

#قصص_من_الحياة

Loading

تعليقات الفيسبوك

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*

الإنضمام للجروب
صفحتنا على الفيسبوك
الأكثر قراءة
مختارات عالم الفن
شخصيات عامة